فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في التاء:

هو حرف هجاءٍ، لِثوىّ، من جِوار مخرج الطَّاءِ.
ويمدّ ويقصر.
والنسبة إِلى الممدود: تائي، وإِلى المقصور: تاويّ.
وجمعه أَتْوَاءٌ؛ كداءٍ وأَدْواءٍ.
وقصيدة تائيّة، وتيَويّة.
وتيّيت تاءً حسنة.
والتَّاءُ المفردة محرّكة في أَوائل الأَسماءِ وفى أَواخرها، وفى أَواخر الأَفعال، ومسكنة في أَواخرها.
والمحرّكة في أَوائل الأَسماءِ حرف جرّ للقسم.
وتختصّ بالتعجب، وباسم الله تعالى.
وربّما قالوا: تربِّى، وتربِّ الكعبة، وتالرحمن، والمحرّكة في أَواخرها حرف خطاب؛ كأَنْت.
والمحرّكة في أَواخر الأَفعال ضمير؛ كقمت.
والسّاكنة في أَواخرها علامة للتَّأْنيث: كقامت.
وربّما وُصلت بثُم ورُبّ، والأَكثر تحريكها معهما بالفتح.
و(تا) اسم يشار به إِلى المؤنث مثل (ذا)، و(ته) مثل ذِه، وتان للتثنية، وأُولاءِ للجمع.
وتصغير (تا): تيَّا، وتيّاك، وتيّالِك، وتدخل عليها ها، فيقال هاتا.
فإِن خوطب بها جاءَ الكاف، فقيل: تيك، وتاك، وتِلْك، وتَلك بالكسر والفتح، وهى رديئة.
وللتثنية تانِك، وتانِّك تخفف وتشدّد، والجمع أَولئك وأُلاكَ وأَولالك، وتدخل الهاءُ على تيك، وتاك، فيقال: هاتيك، وهاتاك.
والتاءُ في حساب الجُمّل أَربعمائة.
والتاءُ المبدلة من الواو كالتراث والوُراث، والتجاه والوجاه {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكلا لَّمّاً}.
وأَصله الوراث ومنها التَّاءُ المبدلة من السّين في الطَّسْت والطسّ. اهـ.
وقال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في لم ولم ولما:

لَمَّ الشيء يَلُمّه: جمعه.
ولمّ الله شَعَثه: قارب بين شتيت أَمره.
ورجل مِلَمّ: يجمع القوم، أَو يجمع بين عشيرته.
قال الله تعالى: {أَكلا لَّمّاً} الأَكل يلمّ الثريد.
وأَلمّ به: نزل.
ويزورني لِمَاماً، أي غِبًّا.
واللمم: مقاربة المعصية.
ويعبر به عن الصغيرة.
وقوله تعالى: {إِلاَّ اللَّمم} من قولك: أَلممت بكذا، أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة.
وغلام مُلِمّ: مراهق.
والمُلِمَّة: النازلة.
وأَلمّ بالأَمر: لم يتعمّق فيه.
وأَلمّ: باشر صغار الذنوب.
وأَلمّ النخلُ: قارب الإِرطاب.
لَمْ: حرف جازم ينفى المضارع ويقلبه ماضياً، قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}.
وقد يرتفع الفعل بعدها؛ كقول الشاعر:
لولا فوارِسُ من نُعْمٍ وإِخوتهم ** يوم الصُّلَيفاء لم يُوفُون بالجار

وقيل: ضرورة.
وقيل: بل لغة صحيحة لبعض العرب.
وقال اللِّحيانىّ: وقد ينصب الفعل بعدها.
وهى لغة لبعض العرب:
في أي يومي من الموتِ أَفِرّْ ** أَيوم لَمْ يُقدر أَمْ يوم قدر

ومنه قراءة بعضهم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}، وقيل: كان الأَصل: نشرحَنْ فحذفت النون؛ وليس بجيّد.
وقد تفُصل (لَمْ) من مجزومها بالظرف لضرورة الشعر؛ كقوله:
فذاك ولم إِذا نحن امْتَرَيْنا ** تكنْ في الناس يُدركُك المِراءُ

وقول الآخر:
فأَضحت مغانيها قِفارا رُسومُها ** كأنْ لم سِوَى أَهلٍ من الوحش تؤهِلِ

وقد يليها الاسم معمولا لفعل محذوف يفسّره ما بعده؛ كقوله:
ظننت فقيرا ذا غِنًى ثم نلته ** فلمْ ذا رجاء أَلقَه غير ذاهب

وَأَمَّا لما فعلى ثلاثة أَوجه:
أحدها: أَن تختص بالمضارع فتجزمه، وتنفيه، وتقلبه ماضياً، كلَمْ إِلاَّ أَنها تفارقها في خمسة أَمور:
1- أَنها لا تقترن بأَداة شرط، لا يقال: إِنْ لما يقم.
وفى التنزيل: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ}، و{لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ}، {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ}.
2- أَن منفيّها مستمرّ النفي إِلى الحال؛ كقول عثمان:
فإِنْ كنتُ مأْكولا فكن خير آكل ** وإِلاَّ فأدركني ولما أَمزّق

ومنفىّ لم يحتملَ الاتِّصال؛ نحو قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بدعائك رَبِّ شَقِيّاً}، والانقطاعَ نحو قوله تعالى: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً}، ولهذا جاز لم يكن ثمَّ كان، ولم يجز لما يكن ثمّ كان. بل يقال: لما يكن وقد يكون.
3- منفىّ لما لا يكون إِلاَّ قريباً من الحال، ولا يشترط ذلك في منفىّ لم، تقول: لم يكن زيد في العام الماضي مقيما، ولا يجوز لما يكن.
4- أَن منفىّ لما متوقَّع ثبوته، بخلاف منفىّ لم؛ ألا ترى أَن معنى {بَل لما يَذُوقُواْ عذاب} أَنهم لم يذوقوه إِلى الآن، وأَنَّ ذوقهم له متوقَّع.
ومثله قوله تعالى: {وَلما يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ}، وقد آمنوا فيما بعد.
5- أَن منفىّ لما جائز الحذف لدليل؛ كقوله:
فجئت قبورهم بَدْءًا ولما ** وناديت القبور فلم يُجبْنَهْ

أي ولما أكن بَدءًا قبل ذلك، أي سيدًا.
ولا يجوز وصلت إِلى بغداد ولم، تريد: ولم أَدخلها.
الثاني من أَوجه لمَّا: أَن تختص بالماضي؛ ويقال: لما حرف وجود لوجود، وقيل: حرف وجوب لوجوب.
وقيل: ظرف بمعنى حين، وقيل: بمعنى إِذْ، ويكون جوابها فعلا ماضياً اتِّفاقا، وجملة اسميّة مقرونة بإِذا الفجائية، أَو بالفاء عند بعضهم، وفعلاً مضارعاً عند بعضهم.
دليل الأَوّل قوله تعالى: {فَلما نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ}.
ودليل.
الثاني: {فَلما نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
ودليل.
الثالث: {فَلما نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ}.
ودليل الرابع: {فَلما ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا}، وهو مؤوّل بجادَلنا.
وقيل في آية الفاء: إِن الجواب محذوف، أي انقسموا قسمين.
فمنهم مقتصد، وفى آية المضارع: إِن الجواب {جاءته الْبُشْرَى} على زيادة الواو، أَو الجواب محذوف، أي أَقبل يجادلنا.
الثالث: يكون حرف استثناء، فيدخل على الجملة الاسميّة، نحو: {إن كل نفس لما عليها حافظ} فيمن شدَّد الميم؛ وعلى الماضي لفظاً لا معنًى، نحو أَنْشُدُك اللهَ لما فعلتَ، أي ما أَسأَلك إِلاَّ فِعْلك، ومنه قوله تعالى: {وَإِن كُلٌّ لما جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} قال الفرّاءُ: لما وُضعت في معنى إِلاَّ، فكأَنها لَمْ ضمّت إِليها ما وصارا جميعا حرفا واحدا، وخرجا من حدّ الجحد.
قال الأزهري: ومما يدلّ على أَنَّ لما يكون بمعنى إِلاَّ مع إِنْ التي تكون جحدا قول الله عزَّ وجلَّ: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} وهى قراءة قراء الأَنصار، وقال الفرَّاءُ: وهى في قراءة عبد الله {إِنْ كُلّهم لما كَذَّب الرسل}، والمعنى واحد.
وتكون لما مركَّبة من كلمات ومن كلمتين.
فأَمَّا المركَّبة من كلمات فكما في: {وَإِنَّ كلا لما لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص بتشديد نون {إن} وميم {لما} فيمن قال: الأَصل: لَمِنْ مَا، فأَبدلت النون ميماً، وأُدغمت، فلما كثرت الميمات حُذفت الأولى.
وهذا القول ضعيف؛ لأَن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت.
وأَضعف منه قول آخر: إِن الأَصل: لما بالتنوين بمعنى جمعاً، ثم حذف التنوين إجراء للوصل مُجرى الوقف؛ لأَن استعمال لما في هذا المعنى بعيد، وحَذف التنوين من المنصرف أَبعد.
وأَضعف من هذا قول من قال: إِنه فَعلى من اللمّ وهو بمعناه، ولكنه مُنع الصرف لأَلف التأْنيث.
ولم يثبت استعمال هذه اللفظة.
واختار ابن الحاجب أَنها لما الجازمة حذف فعلها، والتقدير: لما يُهمَلوا، أَو لما يُتركوا لدلالة ما تقدم من قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، ثم ذكر الأَشقياءَ والسعداء.
وقيل: الأَحسن أَن يقدر: لما يُوَفَّوْا أَعمالهم، أي إنهم إِلى الآن لم يوَفَّوها وسيوفَّونها.
وأَمَّا قراءة أَبى بكر بتخفيف {إن} وتشديد {لما} فيحتمل وجهين:
أحدهما: أَن تكون مخففة من الثقيلة.
والثاني: أَن تكون {إن} نافية و{كلا} مفعولا بإضمار أَرى، ولما بمعنى إِلاّ.
وأَمَّا قراءة النحويِّيْن بتشديد النون وتخفيف الميم فواضحة.
وأَمَّا قراءة الحرمِيَّيْن بتخفيفهما فإِنَّ الأولى على أَصلها من التشديد ووجوب الإعمال، وفى الثانية مخففة من الثقيلة، وأُعملت على أحد الوجهين.
واللام مِن {لما} فيهما لام الابتداء.
وأَمَّا المركَّبة من كلمتين فكقوله:
لما رأَيت أَبا يزيدَ مقاتلاً ** أَدع القتال وأَشهد الهيجاءَ

الأَصل فيه: لن ثم أدغمت النون في الميم للتقارب، ووُصِلا خطأ للإلغاز، وإِنما حقها أَن يكتبا منفصلين.
والله أَعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (21- 30):

قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذكرى (23) يَقول يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لحياتي (24) فَيومئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عذابهُ أحد (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أحد (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المطمئنة (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ راضية مرضية (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جنتي (30)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان السياق هادياً إلى أن التقدير: يحسبون أن ذلك يوفر أموالهم ويحسن أحوالهم ويصلح بالهم، زجر عنه بمجامع الزجر فقال: {كلا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، ثم استأنف ذكر ما يوجب ندمهم وينبههم من رقدتهم ويعرفهم أن حب المال لا يقتضي نموه، ولو اقتضى نموه ما اقتضى إيجابه للسعادة فقال: {إذ دكت الأرض} أي حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدة المط لا عوج فيها بوجه، وأشار بالبيناء للمفعول إلى سهولة ذلك لأن الأمر عظيم لعظمة الفاعل الحق، ولذلك قال: {دكاً دكاً} أي مكرراً بالتوزيع على كل موضع ناتٍ فيها، فيكون لكل جبل وأكمة وثنية وعقبة دك يخصه على حدته ليفيد ذلك أنه دك مبالغ فيه فتصير جبالها وأكمامها هباءً منثوراً ثم تستوي حتى لا يكون فيها شيء من عوج، وهو كناية عن زلازل عظيمة لا تحملها الجبال الرواسي فيكف بغيرها.
ولما دلت التسوية على مجيء أمر عظيم، فإن العادة في الدنيا أن الطرق لا تعم بالكنس أو الرش أو التسوية إلا لحضور عظيم كالسلطان، قال متلطفاً بالمخاطب من أواخر سورة البروج إلى هنا بذكر صفة الإحسان على وجه يفتت أكباد أضداده، {وجاء ربك} أي أمر المحسن إليك بإظهار رفعتك العظمى في ذلك اليوم الأعظم لفصل القضاء بين العباد بشفاعتك {والملك} أي هذا النوع حال كون الملائكة مصطفين {صفاً صفاً} أي موزعاً اصطفافهم على أصنافهم كل، صنف صف على حدة، ويحيط أهل السماء الدنيا بالجن والإنس، وأهل كل سماء كذلك، وهم على الضعف ممن أحاطوا به حتى يحيطوا أهل السماء السابعة بالكل وهم على الضعف من جميع من أحاطوا به من الخلائق، ومعنى مجيئه سبحانه وتعالى بعد أن ننفي عنه أن يشبه مجيء شيء من الخلق لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا صححنا العقد في ذلك في كل ما كان من المتشابه قلنا في هذا إنه مثل أمره سبحانه وتعالى في ظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وقهره وسلطانه يحال الملك إذا حضر بنفسه فظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بظهور عساكره كلها خالية عنه، فمجيئه عبارة عن حكمه وإظهار عظمته وبطشه وكل ما يظهره الملوك إذا جاؤوا إلى مكان، وهو سبحانه وتعالى شأنه حاضر مع المحكوم بينهم بعلمه وقدرته، لم يوصف بغيبة أصلاً أزلاً ولا أبداً، فحضوره في ذلك الحال وبعده كما كان قبل ذلك من غير فرق أصلاً ولم يتجدد شيء غير تعليق قدرته على حسب إرادته بالفصل بين الخلق، ولو غاب في وقت أو أمكنت غيبته بحيث يحتاج إلى المجيء لكان محتاجاً، ولو كان محتاجاً لكان عاجزاً، ولو عجز أو أمكن عجزه في حال من الأحوال لم يصلح للإلهية- تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيراً، وفي تكرير {صفاً} تنبيه على صرف المجيء عن حقيقته وإرشاد إلى ما ذكرت من التمثيل.
ولما كانت جهنم لا تأتي بنفسها لأنها لو أتت بنفسها لربما ظن أنها خارجة عن القدرة بل تقودها الملائكة، فكلما عالجوها ذهاباً وإياباً حصل للناس من ذلك من الهول ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان المهول نفس المجيء بها لا تعيين الفاعلين، لذلك بني للمفعول قوله: {وجاء} أي بأسهل أمر {يومئذ} أي إذ وقع ما ذكر {بجهنم} أي النار التي تتجهم من يصلاها، روي أنه يؤتى بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وهو كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 36] وأبدل من (إذا) توضيحاً لطول الفصل وتهويلاً قوله: {يومئذ} أي إذ وقعت هذه الأمور فرأى الإنسان ما أعد للشاكرين وما أعد للكافرين.
ولما قدم هذه الأمور الجليلة والقوارع المهولة اهتماماً بها وتنبيهاً على أنها، لما لها من عظيم الموعظة، جديرة بأن يتعظ بها كل سامع، ذكر العامل في ظرفها وبدله فقال: {يتذكر الإنسان} أي على سبيل التجديد والاستمرار فيذكر كل ما كان ينفعه في الدنيا وما يضره فيعلم أن حبه للدنيا لم يفده إلا خساراً، لا زاد بحبها شيئاً لم يكتب له ولا كان ينقصه بذلها شيئاً كما كتب له أو بذلها، وإذا تذكر ذلك هان عليه البذل، وليست تلك الدار دار العمل، فلذلك قال: {وأنى} أي كيف ومن أي وجه {له الذكرى} أي نفع التذكر العظيم فإنه في غير موضعه، فلا ينفعه أصلاً بوجه من الوجوه لفوات دار العمل، ولا يقع بذلك على شيء سوى الندم وتضاعف الغم والهم والآلام.
ولما كان الندم يقتضي أن يعمل الإنسان ما ينافيه، بين أنه ليس هناك عمل إلا إظهار الندم فاستأنف قوله: {يقول} أي متمنياً المحال على سبيل التجديد والاستمرار: {يا ليتني} وهل ينفع شيئاً (ليت) {قدمت} أي أوقعت التقديم لما ينفعني من الجد والعمل به {لحياتي} أي أيام حياتي في الدنيا أو لأجل حياتي هذه الباقية التي لا موت بعدها، ويمكن أن يكون سبب تمنيه هذا علمه بأنه كان في الدنيا مختاراً، وأن الطاعات في نفسها كانت ممكنة لا مانع له منها في الظاهر إلا صرف نفسه عنها وعدم تعليق ما أتاه الله من القوى بها.
ولما كان هذا غير نافع له، سبب عنه قوله: {فيومئذ} أي إذ وقعت هذه الأمور كلها {لا يعذب} أي يوقع {عذابه} أي عذاب الله، أي مثل عذابه المطلق المجرد فكيف بتعذيبه.
ولما اشتد التشوف إلى الفاعل، أتى به على وجه لا أعم منه أصلاً فقال: {أحد}.
ولما جرت العادة بأن المعذب يستوثق منه بسجن أو غيره، ويمنع من كل شيء يمكن أن يقتل به نفسه، خوفاً من أن يهرب أو يهلك نفسه قال: {ولا يوثق} أي يوجد {وثاقه} أي مثل وثاقه فكيف بإيثاقه {أحد} والمعنى أنه لا يقع في خيال أحد لأجل انقطاع الأنساب والأسباب أن أحدا يقدر على مثل ما يقدر عليه سبحانه وتعالى من الضر ليخشى كما يقع في هذه الدنيا، بل يقع في الدنيا في أوهام كثيرة أن عذاب من يخشونه أعظم من عذاب الله- وأن عذاب الدنيا بأسره لو اجتمع على إنسان وحده لا يساوي رؤية جهنم بذلك المقام في ذلك المحفل المهول دون دخولها- ولذلك تقدم خوفه على الخوف من الله، وبنى الكسائي ويعقوب الفعلين للمفعول، والمعنى على قراءة الجماعة ببنائها للفاعل: لا يعذب أحد عذاباً مثل عذاب الله أي لا يعذب أحد غير الله أحدا من الخلق مثل عذاب الله له، والحاصل أنه لا يخاف في القيامة من أحد غير الله، فإنه ثبت بهذا الكلام أن عذابه لا مثل له، ولم يذكر المعذب من هو فيرجع الأمر إلى أن المعنى: فيومئذ يخاف الإنسان من الله خوفاً لا مثل له، أي لا يخاف من أحد مثل خوفه منه سبحانه وتعالى، ويجوز أن يكون الضمير في {عذابه} للإنسان، أي لا يعذب أحد من الزبانية أحدا غير الإنسان مثل عذابه، وفي المبني للمفعول: لا يعذب عذاب الإنسان أحد لكن يبعده أنه يلزم عليه أن يكون عذاب الإنسان أعظم من عذاب إبليس- ويجوز أن يكون المعنى: إنه لا يحمل أحد ما يستحقه من العذاب كقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164].
ولما علم أن هذا الجزاء المذكور لا يكون إلا للهلوع الجزوع المضطرب النفس الطائش في حال السراء والضراء، الذي لا يكرم اليتيم ولا المسكين ويحب الدنيا، وكان من المعلوم أن من الناس من ليس هو كذلك، تشوفت النفس إلى جزائه فشفى عيّ هذا التشوف بقوله، إعلاماً بأنه يقال لنفوسهم عند النفخ في الصور وبعثرة ما في القبور للبعث والنشور: {يا أيتها النفس المطمئنة} أي التي هي في غاية السكون لا خوف عليها ولا حزن ولا نقص ولا غبون، لأنها كانت في الدنيا في غاية الثبات على كل ما أخبر به عن الدار الآخرة وغيرها من وعد ووعيد وتحذير وتهديد، فهم راجون لوعده خائفون من وعيده، وإذا كانت هذه حال النفس التي شأنها الميل إلى الدنيا فما ظنك بالروح التي هي خير صرف {ارجعي} أي بالبعث {إلى ربك} أي موعد الذي أوجدك ورباك تربية الموفقين، أو إلى بدنك حال كونك {راضية} أي بما تعطينه.
فلا كدر يلحقك بوجه من الوجوه أصلاً كما كنت في دار القلق والاضطراب مطمئنة ساكنة تحت القضاء والقدر سالكة سبيل الرضا إن حصل ابتلاء بالتكريم والتنعيم أو التضييق والتغريم وثوقاً بما عند الله {مرضية} عند الله وسائر خلقه، فلا شيء يكرهك بسبب ما كنت مطمئنة تعملين الأعمال الصالحة تحت القضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره، ثم بيّن ما أجمل من الرجوع فقال سبحانه: {فادخلي} أي بسبب هذا الأمر {في عبادي} أي في زمرة الصالحين الوافدين على، الذين هم أهل للإضافة إلى، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها، وقراءة {عبدي} بالتوحيد للجنس الشامل للقليل والكثير تدل على ذلك {وادخلي جنتي} أي وهي جنة عدن وهي أعلى الجنان، قال البغوي: قال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف فشهدت جنازته فجاء طائر لم نر على صورة خلقه، فدخل نعشه فلم نر خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر فلم ندر من تلاها، وهذا الآخر هو أولها على ما هو ظاهر المقسم عليه بالفجر من البعث المحتوم، الذي لولا هو لكان خلق الخلق من العبث المذموم، المنزه عنه الحي القيوم، فسبحان الملك الأعظم الذي هذا كلامه، علت معانيه عن طعن وشرفت أعلامه، وغر في ذروة الإعجاز تركيبه ونظامه.
............................................ ** وأين الثريا من يد المتناول

. اهـ.